نعم المحكمة الدولية في خطر ... (٢)
جميل السيد
إذاً، لماذا المحكمة الدولية في خطر جدي وداهم، في حين أنه ليس هنالك مجال لحصول أية صفقة أو تسوية سياسية على حسابها؟ وفي حين أن لبنان وسوريا يرفضان، كل لأسبابه الجوهرية، قبول مثل تلك الصفقة التي تحدثت عنها أمس؟!! بداية لا بد من الإشارة إلى أنه لا محكمة دولية ما لم يصدر قبلها قرار اتهامي عن المدعي العام الدولي، كما أنه لا قرار اتهاميا ما لم يتوصل قبله التحقيق الدولي إلى نتائج حاسمة تحدد بصورة واضحة هوية المشتبه بهم، استناداً إلى شهود موثوقين وأدلة حسية وإثباتات دامغة ووقائع صحيحة... لذلك، فإن أساس كل شيء في حياة المحكمة الدولية أو في موتها، يكمن أولاً وأخيراً في سلامة التحقيق وصحته واحترامه للقوانين والتزامه بالمعايير الدولية، سواء في أصول تبني الشهود، أم في غير ذلك من المجالات، بحيث أن أي تجاوز أو خروج عن تلك القوانين والمعايير والأصول، سيُسقط حتماً حصانة ملف التحقيق أمام المحكمة الدولية، سواء كان هذا التجاوز صادراً عن التحقيق الدولي أو عن تابعه، التحقيق اللبناني، كون التحقيق واحدا عند الطرفين، وليس هنالك من تحقيق لدى أحدهما مستقل عن الآخر. وبالتالي فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل أن تجاوزات التحقيق الدولي ـ اللبناني قد وضعت المحكمة الدولية في خطر؟ وهل من مجال بعد لإنقاذ المحكمة الدولية قبل فوات الأوان؟؟ قد تستحيل الإجابة عن هذا السؤال من خلال بضعة أسطر في مقال واحد، ذلك أن التحقيق الدولي منذ بدايته مع القاضي ديتليف ميليس، قد حفل بما لا يُعد ولا يحصى من تجاوزات ومخالفات كارثية على المحكمة الدولية، شاركه فيها القضاء اللبناني دون أي اعتراض، رغم صلاحياته الواسعة في هذا المجال، ثم جاء بعده القاضي سيرج برامرتز، فصرف أشهراً عديدة على تصحيح تلك الأخطاء والتجاوزات، معيداً صياغة ملف التحقيق من أساسه بعد تنقيته من شهود الزور والمعلومات المضللة، ليصبح التحقيق أقرب ما يكون إلى ملاءمة القوانين والمعايير الدولية. وبقدر ما استطاع القاضي برامرتز مسح ذيول تجاوزات ميليس وشهوده في لجنة التحقيق الدولية، فإنه عجز عن تصحيح نتائج تلك التجاوزات والمخالفات لدى القضاء اللبناني، وبالأخص في مجال إنهاء الاعتقالات السياسية التعسفية التي استندت إلى شهود الزور في السابق، وبحيث سمع اعترافاً مباشراً من القضاة بأن الاعتبارات السياسية للسلطة اللبنانية تمنعهم من الإفراج عمّن برّأتهم تحقيقات القاضي برامرتز، ومن بينهم كاتب هذه السطور، ولدرجة أنه أرسل للقضاة أربع رسائل خطية لحملهم على اتخاذ قرار بهذا الاتجاه، عدا عن اجتماعاته المباشرة معهم، إلى أن اضطر إلى مغادرة رئاسة اللجنة آسفاً ومستاءً بعدما أبلغنا بالفم الملآن أنه »فعل ما بوسعه لدى القضاة اللبنانيين، لكنه عجز عن ذلك، كون مهمته كانت مع الأسف إنجاز التحقيق لا إصلاح القضاء اللبناني...«. منذ مطلع هذا العام، استلم القاضي دانيال بلمار رئاسة لجنة التحقيق الدولية وملفات التحقيق من القاضي برامرتز، وانطلق بعمله من حيث انتهى سلفه كونه لم يكن بحاجة لإصلاح التحقيق على غرار ما حصل في فترة ميليس. وهكذا، وفي أول اجتماع رسمي عقده القاضي بلمار مع القضاة اللبنانيين في شهر شباط ،٢٠٠٨ كان أول موضوع طرحه، بشهادة القضاة انفسهم، هو عن أسباب استمرار الاعتقالات، وضرورة تصحيح هذا الوضع انسجاماً مع المعايير الدولية، وإلا فإن ملف التحقيق كما المحكمة الدولية سيكونان عرضة للنقض والخطر. وجاء جواب القضاة اللبنانيين بطلب الاستمهال كونهم لم ينتهوا بعد من قراءة كل الأوراق التي أحالتها إليهم لجنة التحقيق الدولية!!! عاد رئيس اللجنة، مرة ثانية في شهر آذار ،٢٠٠٨ وسأل عن مصير البت بالاعتقالات وضرورة الالتزام فيها بالمعايير والقوانين الدولية، فكان جواب القضاة اللبنانيين أنهم أنهوا قراءة الأوراق والمحاضر المحالة إليهم من لجنة التحقيق، وأنهم وجدوا فيها ما يستدعي إجراء بعض الاستجوابات والتوسع في بعض النقاط، مما يستلزم وقتاً إضافياً للبت بالاعتقالات!! لجنة التحقيق الدولية ليست غبية، ولا رئيسها كذلك، لكنهم أجانب مهذبون، يميّزون الخطأ من الصواب، ينقلون الصورة إلى المراجع الدولية المختصة وإلى الدول المعنية، يتداولون منذ زمن القاضي برامرتز في ما بينهم، الأسباب السياسية الحقيقية للاستمرار بالاعتقال السياسي، يعرفون جيداً بأن المهل التي يتذرع بها القضاة اللبنانيون ما هي إلا مضيعة للوقت، لأن التحقيق أصلاً هو تحقيق اللجنة، فكيف للقاضي اللبناني أن يكتشف فيه أموراً لم يحقق أصلاً فيها، ولم يستجوب معظم شهودها؟ وهل قراءة الأوراق والمحاضر والتسلي باستدعاء بعض الشهود من قبل القاضي اللبناني، كفيلة بكشف جريمة بحجم جريمة اغتيال الرئيس الحريري؟! أعود فأقول، قضاة اللجنة الدولية ومحققوها مهذبون وليسوا أغبياء. القضاة اللبنانيون يعتبرون التهذيب ضعفاً وغباءً، فيتشاطرون ويتمادون في رفض المعايير الدولية والمماطلة بالاعتقالات، فيدفع التحقيق الدولي كما المحكمة الدولية ثمناً باهظاً. إلا إذا كان الاستمرار باعتقالنا لأسباب سياسية هو أهم من التحقيق الدولي والمحكمة الدولية، وفي هذه الحال يكونون على حق، ويكون من يضغط عليهم على حق أيضاً... بعد آخر اجتماع له مع القضاة في آذار ،٢٠٠٨ قصد رئيس اللجنة القاضي بلمار مجلس الأمن الدولي لتقديم تقريره الأول منذ استلامه لمهامه. وبالطبع كان التقرير مخيباً للآمال السياسية اللبنانية، فبلمار وقبله برامرتز، ليسا ديتليف ميليس ولا محمد زهير الصديق! تقرير بلمار جاء بمستوى الموضوعية والاحتراف المهني والمعايير الدولية، وكان فيه ثغرة واحدة قاتلة لملف التحقيق، وهي الاعتقال السياسي. تقرير اللجنة مؤدب كفاية كي لا يدين الاعتقال السياسي خطياً، أولاً لأنه كان لا يزال يأمل بعودة القضاة اللبنانيين إلى استقلاليتهم للبت بهذا الموضوع، وثانياً لأنه ليس من واجبه ولا من مصلحة التحقيق أن يخلق اشتباكاً علنياً بين الأمم المتحدة والسلطة اللبنانية، فيطيح بذلك التحقيق والأمم المتحدة والقضاء اللبناني، وفوقها ومعها حقوق الرئيس الشهيد الراقد في قلب بيروت بانتظار الحقيقة. لكن رئيس اللجنة لم يكن على ما يبدو ساكتاً ولا راضياً. ففي جلسة مناقشة تقريره في مجلس الأمن الدولي في ٨ نيسان ٢٠٠٨ وعندما سأله المندوب الروسي عن سبب الاستمرار باعتقال اللواء السيد وآخرين خلافاً للقوانين والأصول، كان الجواب الحرفي العلني للقاضي بلمار: »هذا الاعتقال لا علاقة له أبداً بلجنة التحقيق الدولية وليس بناء لطلبها. هذا الاعتقال مسؤولة عنه حصراً السلطات القضائية اللبنانية. لقد راجعت بخصوصه المدعي العام التمييزي اللبناني القاضي سعيد ميرزا«، (بالطبع لم يراجعه ليطلب منه الاستمرار باعتقالي، فأنا معتقل أصلاً!!!)، وأنهى بلمار كلامه بالقول: »آسف أنني لا أستطيع أن أطلعكم علناً في هذه الجلسة على الأجوبة التي أعطاها لي القاضي ميرزا!!!«. بعدها انفضّت الجلسة العلنية، وانتقلت الأسئلة إلى الكواليس، وسمع مندوبو الدول الأعضاء في مجلس الأمن ما لم يصدقوه، وما كان أطلعهم عليه سابقاً القاضي سيرج برامرتز باعتباره شاهداً شخصياً على اعتراف القضاة أمامه بأن الاعتبارات السياسية هي التي تمنعهم من الإفراج عن اللواء السيد وآخرين!! كان ذلك كله منذ أكثر من ثلاثة أشهر، عاد خلالها رئيس اللجنة الدولية إلى لبنان عدة مرات. وإذا بقصر العدل اللبناني يضج بتذمرات المدعي العام التمييزي بأنه يحاول منذ ثلاثة أشهر لقاء رئيس اللجنة دون جدوى!! وبالطبع لا يريد المدعي العام التمييزي أن يرى خطورة الاعتقال السياسي وانعكاسه الكارثي على العلاقة مع اللجنة ورئيسها وعلى صدقية التحقيق الدولي وقيام المحكمة الدولية مستقبلاً!! أكتفي بهذا القدر، وما خفي منه أعظم وأخطر، ويعرفه القضاة اللبنانيون كما لجنة التحقيق الدولية بالتفصيل، وأقل ما يقال بما يجري في القضاء اللبناني بحق التحقيق هو أنه جريمة كبرى. وأضيف على ذلك إدراج بعض التساؤلات أدناه مع أجوبتها، لأظهر أسباب تأكيدي على أن الخطر الأكبر على المحكمة الدولية يتأتى من واقع الاعتقال السياسي المخالف لرأي اللجنة وللمعايير الدولية، كما يتأتى من التجاوزات والمخالفات التي ارتكبت في الماضي بالتنسيق بين القضاء اللبناني ولجنة القاضي ميليس، ولا تزال ذيولها مستمرة إلى اليوم، وسترتد حكماً على المحكمة الدولية: ـ هل استند تحقيق ميليس منذ بدايته إلى الاتهامات السياسية دون سواها؟ نعم. ـ هل استند ذلك التحقيق إلى شهود زور لإثبات تلك الاتهامات؟ نعم. ـ هل تبنى القضاة اللبنانيون تلقائياً أقوال أولئك الشهود الزور دون مقابلتهم؟ نعم. ـ هل جرت الاعتقالات بناء لشهود الزور ومعلومات مضللة؟ نعم. ـ هل أبطل القاضي برامرتز لاحقاً جميع افتراءات شهود الزور بحق اللواء السيد؟ نعم. ـ هل ادعى القضاء اللبناني أو أوقف أياً من شهود الزور ومصادر المعلومات المضللة؟ كلا. ـ هل جرى إطلاق محمد زهير الصديق رغم اعترافه خطياً أمام اللجنة بالمشاركة في الجريمة؟ نعم. ـ هل جرى الادعاء من قبل القضاء اللبناني بالتضليل او بالمشاركة على المجموعة الأصولية التي اعترفت باغتيال الرئيس الحريري؟ كلا. ـ هل واجهت لجنة التحقيق الدولية اللواء السيد بأي شاهد أو إثبات أو دليل؟ كلا. ـ هل واجه القضاء اللبناني اللواء السيد بأي شاهد أو إثبات أو دليل؟ كلا. ـ هل جرى التشهير العلني بالمعتقلين في التقرير الأول والثاني للجنة ميليس خلافاً لسرية التحقيق؟ نعم. ـ هل تلقى القضاء اللبناني واللجنة الدولية قبل صدور التقريرين تحذيراً من اللواء السيد بعدم المس بسرية التحقيق والتشهير بالمعتقلين؟ نعم. ـ هل تجاوبت لجنة حقوق الإنسان في جنيف مع طلب الحكومة اللبنانية بإلغاء صفة الاعتقال التعسفي عن اللواء السيد وآخرين؟ كلا. ـ هل تعلم السلطات الأمنية والقضائية الفرنسية بحقيقة شاهد الزور محمد زهير الصديق؟ نعم. ـ هل اطلعت الرئاسة الجديدة في فرنسا على هذا الوضع الشاذ؟ نعم. ـ هل يجوز القول إن احد اسباب الانفتاح الفرنسي على سوريا يعود ربما الى انكشاف فضيحة محمد زهير الصديق لدى الرئاسة الفرنسية؟ نعم. أكتفي بهذا القدر من التساؤلات، بالإضافة لما شرحته قبلها حول مخاطر الاعتقال السياسي على اللجنة والمحكمة والقضاء اللبناني نفسه، وأضيف نقطة أخيرة لافتة للنظر يضج بها قصر العدل أيضاً، من أن القضاة المعنيين بملف التحقيق يخبرون المقربين منهم، بأنه في أسوأ الأحوال، فإنهم إذا وقعوا في »حشرة« بين السياسة واللجنة الدولية، أو بين أركان السياسة نفسها، فإنهم سيعمدون إلى الاستقالة وفي هذه الحالة يخلقون فراغاً قضائياً يحول دون وجود قاض لبناني للبت بالاعتقال، فيستمر عندها الاعتقال السياسي بقوة الفراغ، كما حصل تماماً في تنحية المحقق العدلي الياس عيد سابقاً، فيكون تنحيهم خدمة للعبة الوقت ويستطيعون بهذه الطريقة الاستمرار بكسب الرضا السياسي عن استمرار الاعتقال!!! ولأنه ليس من عادتي إلاّ تحمّل المسؤولية عن كل ما أقول وأفعل، فإنني أضع كل الوقائع التي ذكرتها أعلاه بتصرف الرأي العام اللبناني كله دون استثناء، وبالأخص بتصرف المسؤولين اللبنانيين على اختلاف مواقعهم السياسية، كما أعتبر هذه الوقائع أمانة لدى فخامة الرئيس المؤتمن على حماية الحقوق والقوانين والدستور. وأؤكد بالمقابل على القوى المنادية بالحقيقة، والحريصة على قيام المحكمة الدولية، بأن تعمد إلى استدراك هذا الوضع قبل استفحاله، لأن الاعتقال السياسي ليس أهم من الحقيقة، ولأنه لن يدوم مهما طال، ومهما حاول القضاة، المغلوب على أمرهم، كما يقولون، إطالته إرضاء للسياسة، خصوصاً بعدما أصبحت لجنة التحقيق الدولية والأمم المتحدة شهوداً على ظروف وأسباب هذا الاعتقال باعتراف القضاة أنفسهم. وقديماً قيل إن التراجع عن الخطأ فضيلة، وأضيف عليه القول بأن التراجع عن هذه الخطيئة، هو إنقاذ للقضاء اللبناني وللتحقيق وللمحكمة الدولية وللحقيقة قبل فوات الأوان، والأوان لم يفت بعد، فلا تكونوا من الذين أهلكهم عنادهم او تكابرهم او خوفهم من الحقيقة... نعم المحكمة الدولية في خطر من استمرار الاعتقال السياسي، لا من أية صفقة أخرى!! نعم، عائلة الرئيس الشهيد رفيق الحريري معنية قبل سواها بإنقاذ تلك المحكمة من هذا الخطر...
جميل السيد
إذاً، لماذا المحكمة الدولية في خطر جدي وداهم، في حين أنه ليس هنالك مجال لحصول أية صفقة أو تسوية سياسية على حسابها؟ وفي حين أن لبنان وسوريا يرفضان، كل لأسبابه الجوهرية، قبول مثل تلك الصفقة التي تحدثت عنها أمس؟!! بداية لا بد من الإشارة إلى أنه لا محكمة دولية ما لم يصدر قبلها قرار اتهامي عن المدعي العام الدولي، كما أنه لا قرار اتهاميا ما لم يتوصل قبله التحقيق الدولي إلى نتائج حاسمة تحدد بصورة واضحة هوية المشتبه بهم، استناداً إلى شهود موثوقين وأدلة حسية وإثباتات دامغة ووقائع صحيحة... لذلك، فإن أساس كل شيء في حياة المحكمة الدولية أو في موتها، يكمن أولاً وأخيراً في سلامة التحقيق وصحته واحترامه للقوانين والتزامه بالمعايير الدولية، سواء في أصول تبني الشهود، أم في غير ذلك من المجالات، بحيث أن أي تجاوز أو خروج عن تلك القوانين والمعايير والأصول، سيُسقط حتماً حصانة ملف التحقيق أمام المحكمة الدولية، سواء كان هذا التجاوز صادراً عن التحقيق الدولي أو عن تابعه، التحقيق اللبناني، كون التحقيق واحدا عند الطرفين، وليس هنالك من تحقيق لدى أحدهما مستقل عن الآخر. وبالتالي فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل أن تجاوزات التحقيق الدولي ـ اللبناني قد وضعت المحكمة الدولية في خطر؟ وهل من مجال بعد لإنقاذ المحكمة الدولية قبل فوات الأوان؟؟ قد تستحيل الإجابة عن هذا السؤال من خلال بضعة أسطر في مقال واحد، ذلك أن التحقيق الدولي منذ بدايته مع القاضي ديتليف ميليس، قد حفل بما لا يُعد ولا يحصى من تجاوزات ومخالفات كارثية على المحكمة الدولية، شاركه فيها القضاء اللبناني دون أي اعتراض، رغم صلاحياته الواسعة في هذا المجال، ثم جاء بعده القاضي سيرج برامرتز، فصرف أشهراً عديدة على تصحيح تلك الأخطاء والتجاوزات، معيداً صياغة ملف التحقيق من أساسه بعد تنقيته من شهود الزور والمعلومات المضللة، ليصبح التحقيق أقرب ما يكون إلى ملاءمة القوانين والمعايير الدولية. وبقدر ما استطاع القاضي برامرتز مسح ذيول تجاوزات ميليس وشهوده في لجنة التحقيق الدولية، فإنه عجز عن تصحيح نتائج تلك التجاوزات والمخالفات لدى القضاء اللبناني، وبالأخص في مجال إنهاء الاعتقالات السياسية التعسفية التي استندت إلى شهود الزور في السابق، وبحيث سمع اعترافاً مباشراً من القضاة بأن الاعتبارات السياسية للسلطة اللبنانية تمنعهم من الإفراج عمّن برّأتهم تحقيقات القاضي برامرتز، ومن بينهم كاتب هذه السطور، ولدرجة أنه أرسل للقضاة أربع رسائل خطية لحملهم على اتخاذ قرار بهذا الاتجاه، عدا عن اجتماعاته المباشرة معهم، إلى أن اضطر إلى مغادرة رئاسة اللجنة آسفاً ومستاءً بعدما أبلغنا بالفم الملآن أنه »فعل ما بوسعه لدى القضاة اللبنانيين، لكنه عجز عن ذلك، كون مهمته كانت مع الأسف إنجاز التحقيق لا إصلاح القضاء اللبناني...«. منذ مطلع هذا العام، استلم القاضي دانيال بلمار رئاسة لجنة التحقيق الدولية وملفات التحقيق من القاضي برامرتز، وانطلق بعمله من حيث انتهى سلفه كونه لم يكن بحاجة لإصلاح التحقيق على غرار ما حصل في فترة ميليس. وهكذا، وفي أول اجتماع رسمي عقده القاضي بلمار مع القضاة اللبنانيين في شهر شباط ،٢٠٠٨ كان أول موضوع طرحه، بشهادة القضاة انفسهم، هو عن أسباب استمرار الاعتقالات، وضرورة تصحيح هذا الوضع انسجاماً مع المعايير الدولية، وإلا فإن ملف التحقيق كما المحكمة الدولية سيكونان عرضة للنقض والخطر. وجاء جواب القضاة اللبنانيين بطلب الاستمهال كونهم لم ينتهوا بعد من قراءة كل الأوراق التي أحالتها إليهم لجنة التحقيق الدولية!!! عاد رئيس اللجنة، مرة ثانية في شهر آذار ،٢٠٠٨ وسأل عن مصير البت بالاعتقالات وضرورة الالتزام فيها بالمعايير والقوانين الدولية، فكان جواب القضاة اللبنانيين أنهم أنهوا قراءة الأوراق والمحاضر المحالة إليهم من لجنة التحقيق، وأنهم وجدوا فيها ما يستدعي إجراء بعض الاستجوابات والتوسع في بعض النقاط، مما يستلزم وقتاً إضافياً للبت بالاعتقالات!! لجنة التحقيق الدولية ليست غبية، ولا رئيسها كذلك، لكنهم أجانب مهذبون، يميّزون الخطأ من الصواب، ينقلون الصورة إلى المراجع الدولية المختصة وإلى الدول المعنية، يتداولون منذ زمن القاضي برامرتز في ما بينهم، الأسباب السياسية الحقيقية للاستمرار بالاعتقال السياسي، يعرفون جيداً بأن المهل التي يتذرع بها القضاة اللبنانيون ما هي إلا مضيعة للوقت، لأن التحقيق أصلاً هو تحقيق اللجنة، فكيف للقاضي اللبناني أن يكتشف فيه أموراً لم يحقق أصلاً فيها، ولم يستجوب معظم شهودها؟ وهل قراءة الأوراق والمحاضر والتسلي باستدعاء بعض الشهود من قبل القاضي اللبناني، كفيلة بكشف جريمة بحجم جريمة اغتيال الرئيس الحريري؟! أعود فأقول، قضاة اللجنة الدولية ومحققوها مهذبون وليسوا أغبياء. القضاة اللبنانيون يعتبرون التهذيب ضعفاً وغباءً، فيتشاطرون ويتمادون في رفض المعايير الدولية والمماطلة بالاعتقالات، فيدفع التحقيق الدولي كما المحكمة الدولية ثمناً باهظاً. إلا إذا كان الاستمرار باعتقالنا لأسباب سياسية هو أهم من التحقيق الدولي والمحكمة الدولية، وفي هذه الحال يكونون على حق، ويكون من يضغط عليهم على حق أيضاً... بعد آخر اجتماع له مع القضاة في آذار ،٢٠٠٨ قصد رئيس اللجنة القاضي بلمار مجلس الأمن الدولي لتقديم تقريره الأول منذ استلامه لمهامه. وبالطبع كان التقرير مخيباً للآمال السياسية اللبنانية، فبلمار وقبله برامرتز، ليسا ديتليف ميليس ولا محمد زهير الصديق! تقرير بلمار جاء بمستوى الموضوعية والاحتراف المهني والمعايير الدولية، وكان فيه ثغرة واحدة قاتلة لملف التحقيق، وهي الاعتقال السياسي. تقرير اللجنة مؤدب كفاية كي لا يدين الاعتقال السياسي خطياً، أولاً لأنه كان لا يزال يأمل بعودة القضاة اللبنانيين إلى استقلاليتهم للبت بهذا الموضوع، وثانياً لأنه ليس من واجبه ولا من مصلحة التحقيق أن يخلق اشتباكاً علنياً بين الأمم المتحدة والسلطة اللبنانية، فيطيح بذلك التحقيق والأمم المتحدة والقضاء اللبناني، وفوقها ومعها حقوق الرئيس الشهيد الراقد في قلب بيروت بانتظار الحقيقة. لكن رئيس اللجنة لم يكن على ما يبدو ساكتاً ولا راضياً. ففي جلسة مناقشة تقريره في مجلس الأمن الدولي في ٨ نيسان ٢٠٠٨ وعندما سأله المندوب الروسي عن سبب الاستمرار باعتقال اللواء السيد وآخرين خلافاً للقوانين والأصول، كان الجواب الحرفي العلني للقاضي بلمار: »هذا الاعتقال لا علاقة له أبداً بلجنة التحقيق الدولية وليس بناء لطلبها. هذا الاعتقال مسؤولة عنه حصراً السلطات القضائية اللبنانية. لقد راجعت بخصوصه المدعي العام التمييزي اللبناني القاضي سعيد ميرزا«، (بالطبع لم يراجعه ليطلب منه الاستمرار باعتقالي، فأنا معتقل أصلاً!!!)، وأنهى بلمار كلامه بالقول: »آسف أنني لا أستطيع أن أطلعكم علناً في هذه الجلسة على الأجوبة التي أعطاها لي القاضي ميرزا!!!«. بعدها انفضّت الجلسة العلنية، وانتقلت الأسئلة إلى الكواليس، وسمع مندوبو الدول الأعضاء في مجلس الأمن ما لم يصدقوه، وما كان أطلعهم عليه سابقاً القاضي سيرج برامرتز باعتباره شاهداً شخصياً على اعتراف القضاة أمامه بأن الاعتبارات السياسية هي التي تمنعهم من الإفراج عن اللواء السيد وآخرين!! كان ذلك كله منذ أكثر من ثلاثة أشهر، عاد خلالها رئيس اللجنة الدولية إلى لبنان عدة مرات. وإذا بقصر العدل اللبناني يضج بتذمرات المدعي العام التمييزي بأنه يحاول منذ ثلاثة أشهر لقاء رئيس اللجنة دون جدوى!! وبالطبع لا يريد المدعي العام التمييزي أن يرى خطورة الاعتقال السياسي وانعكاسه الكارثي على العلاقة مع اللجنة ورئيسها وعلى صدقية التحقيق الدولي وقيام المحكمة الدولية مستقبلاً!! أكتفي بهذا القدر، وما خفي منه أعظم وأخطر، ويعرفه القضاة اللبنانيون كما لجنة التحقيق الدولية بالتفصيل، وأقل ما يقال بما يجري في القضاء اللبناني بحق التحقيق هو أنه جريمة كبرى. وأضيف على ذلك إدراج بعض التساؤلات أدناه مع أجوبتها، لأظهر أسباب تأكيدي على أن الخطر الأكبر على المحكمة الدولية يتأتى من واقع الاعتقال السياسي المخالف لرأي اللجنة وللمعايير الدولية، كما يتأتى من التجاوزات والمخالفات التي ارتكبت في الماضي بالتنسيق بين القضاء اللبناني ولجنة القاضي ميليس، ولا تزال ذيولها مستمرة إلى اليوم، وسترتد حكماً على المحكمة الدولية: ـ هل استند تحقيق ميليس منذ بدايته إلى الاتهامات السياسية دون سواها؟ نعم. ـ هل استند ذلك التحقيق إلى شهود زور لإثبات تلك الاتهامات؟ نعم. ـ هل تبنى القضاة اللبنانيون تلقائياً أقوال أولئك الشهود الزور دون مقابلتهم؟ نعم. ـ هل جرت الاعتقالات بناء لشهود الزور ومعلومات مضللة؟ نعم. ـ هل أبطل القاضي برامرتز لاحقاً جميع افتراءات شهود الزور بحق اللواء السيد؟ نعم. ـ هل ادعى القضاء اللبناني أو أوقف أياً من شهود الزور ومصادر المعلومات المضللة؟ كلا. ـ هل جرى إطلاق محمد زهير الصديق رغم اعترافه خطياً أمام اللجنة بالمشاركة في الجريمة؟ نعم. ـ هل جرى الادعاء من قبل القضاء اللبناني بالتضليل او بالمشاركة على المجموعة الأصولية التي اعترفت باغتيال الرئيس الحريري؟ كلا. ـ هل واجهت لجنة التحقيق الدولية اللواء السيد بأي شاهد أو إثبات أو دليل؟ كلا. ـ هل واجه القضاء اللبناني اللواء السيد بأي شاهد أو إثبات أو دليل؟ كلا. ـ هل جرى التشهير العلني بالمعتقلين في التقرير الأول والثاني للجنة ميليس خلافاً لسرية التحقيق؟ نعم. ـ هل تلقى القضاء اللبناني واللجنة الدولية قبل صدور التقريرين تحذيراً من اللواء السيد بعدم المس بسرية التحقيق والتشهير بالمعتقلين؟ نعم. ـ هل تجاوبت لجنة حقوق الإنسان في جنيف مع طلب الحكومة اللبنانية بإلغاء صفة الاعتقال التعسفي عن اللواء السيد وآخرين؟ كلا. ـ هل تعلم السلطات الأمنية والقضائية الفرنسية بحقيقة شاهد الزور محمد زهير الصديق؟ نعم. ـ هل اطلعت الرئاسة الجديدة في فرنسا على هذا الوضع الشاذ؟ نعم. ـ هل يجوز القول إن احد اسباب الانفتاح الفرنسي على سوريا يعود ربما الى انكشاف فضيحة محمد زهير الصديق لدى الرئاسة الفرنسية؟ نعم. أكتفي بهذا القدر من التساؤلات، بالإضافة لما شرحته قبلها حول مخاطر الاعتقال السياسي على اللجنة والمحكمة والقضاء اللبناني نفسه، وأضيف نقطة أخيرة لافتة للنظر يضج بها قصر العدل أيضاً، من أن القضاة المعنيين بملف التحقيق يخبرون المقربين منهم، بأنه في أسوأ الأحوال، فإنهم إذا وقعوا في »حشرة« بين السياسة واللجنة الدولية، أو بين أركان السياسة نفسها، فإنهم سيعمدون إلى الاستقالة وفي هذه الحالة يخلقون فراغاً قضائياً يحول دون وجود قاض لبناني للبت بالاعتقال، فيستمر عندها الاعتقال السياسي بقوة الفراغ، كما حصل تماماً في تنحية المحقق العدلي الياس عيد سابقاً، فيكون تنحيهم خدمة للعبة الوقت ويستطيعون بهذه الطريقة الاستمرار بكسب الرضا السياسي عن استمرار الاعتقال!!! ولأنه ليس من عادتي إلاّ تحمّل المسؤولية عن كل ما أقول وأفعل، فإنني أضع كل الوقائع التي ذكرتها أعلاه بتصرف الرأي العام اللبناني كله دون استثناء، وبالأخص بتصرف المسؤولين اللبنانيين على اختلاف مواقعهم السياسية، كما أعتبر هذه الوقائع أمانة لدى فخامة الرئيس المؤتمن على حماية الحقوق والقوانين والدستور. وأؤكد بالمقابل على القوى المنادية بالحقيقة، والحريصة على قيام المحكمة الدولية، بأن تعمد إلى استدراك هذا الوضع قبل استفحاله، لأن الاعتقال السياسي ليس أهم من الحقيقة، ولأنه لن يدوم مهما طال، ومهما حاول القضاة، المغلوب على أمرهم، كما يقولون، إطالته إرضاء للسياسة، خصوصاً بعدما أصبحت لجنة التحقيق الدولية والأمم المتحدة شهوداً على ظروف وأسباب هذا الاعتقال باعتراف القضاة أنفسهم. وقديماً قيل إن التراجع عن الخطأ فضيلة، وأضيف عليه القول بأن التراجع عن هذه الخطيئة، هو إنقاذ للقضاء اللبناني وللتحقيق وللمحكمة الدولية وللحقيقة قبل فوات الأوان، والأوان لم يفت بعد، فلا تكونوا من الذين أهلكهم عنادهم او تكابرهم او خوفهم من الحقيقة... نعم المحكمة الدولية في خطر من استمرار الاعتقال السياسي، لا من أية صفقة أخرى!! نعم، عائلة الرئيس الشهيد رفيق الحريري معنية قبل سواها بإنقاذ تلك المحكمة من هذا الخطر...
No comments:
Post a Comment