نعم المحكمة الدولية في خطر... (١)
جميل السيد
صدرت مؤخراً عن الصديق السابق النائب وليد جنبلاط عدة تصريحات علنية يبدي فيها خشيته من صفقة ما، (تعقد مع سوريا)، على حساب المحكمة الدولية، مستنداً إلى مجموعة من المؤشرات بدءاً من المفاوضات السورية الإسرائيلية غير المباشرة في تركيا، مروراً بالانفتاح الفرنسي على سوريا، ووصولاً إلى بعض الإشارات الملتبسة في مواقف مسؤولين في الأمم المتحدة... وأود أن أوضح بداية بأن الهدف من هذه المقالة ليس الرد على السيد جنبلاط، بل التساؤل عما إذا كانت المحكمة الدولية في خطر من التسييس والصفقات، حيث شاءت الظروف أن تضعني في وسط التحقيق الدولي منذ بدايته، مما يتيح لي بحكم الاطلاع المباشر، أن أقدم الأجوبة الواقعية عن تلك التساؤلات إلى الرأي العام اللبناني والعربي بشكل عام، وإلى جميع المطالبين بالحقيقة في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وعلى رأسهم بشكل خاص عائلته الكريمة، وبالأخص زوجته السيدة نازك وابنه النائب سعد... في المبدأ، فإن الصفقات والتسويات في الجرائم، تعقد عادة مع متورطين أو مجرمين أو مذنبين، وليس مع أبرياء، إذ ليس ما يدعو أي بريء للقبول بأية صفقة أو تسوية. وانطلاقاً من هذا المبدأ البديهي، فإن أية صفقة مفترضة مع سوريا أو غيرها، على حساب المحكمة الدولية، إنما تستلزم حكماً أن يكون التحقيق الدولي قد توصل إلى معرفة وتحديد هوية المجرمين الحقيقيين، أشخاصاً كانوا أم دولاً، ثم أن يتم التفاوض معهم على أساس إعفائهم من الملاحقة أمام المحكمة الدولية أو تخفيض عقوبتهم، في مقابل تقديم أثمان وتنازلات سياسية في مجالات أخرى، وبالطبع على حساب الحقيقة والعدالة والضحايا. وهنا يبرز السؤال التالي: هل توصل التحقيق الدولي إلى تحديد المجرمين حتى يصح الحديث عن صفقة أو تسوية مع سوريا أو غيرها؟ حتى هذه اللحظة، وعلى ضوء تقارير لجنة التحقيق الدولية والمواقف المعلنة لرئيسها في مجلس الأمن الدولي، وعلى ضوء كل ما أحالته تلك اللجنة من محاضر ومعطيات إلى القضاء اللبناني، فإن التحقيقات قد حققت بلا شك تقدماً في عدة مجالات ومسارات واحتمالات، لكنها لم تؤد حتى الآن إلى تحديد هوية المجرمين، مما حال دون صدور قرار اتهامي عن المدعي العام الدولي، ومما استوجب بالتالي تمديد مهمة اللجنة الدولية حتى نهاية العام الجاري على الأقل. وما دام هذا هو حال التحقيق الدولي، فلا مجال إذاً لعقد صفقة مع أحد، في غياب مجرمين أو مذنبين يمكن المساومة معهم... إن هذه الاستحالة العملية والقانونية لأية صفقة على حساب المحكمة الدولية، تواكبها أيضاً استحالة سياسية لبنانية، لا تقتصر فقط على تعهد كل الأطراف اللبنانية، في جلسات الحوار الوطني وخارجها، بالالتزام بالحقيقة وبالمحكمة الدولية، بل إن الرأي العام اللبناني كله لن يسامح أيضاً أي فريق سياسي قد يتورط في صفقة أو تسوية من هذا النوع، خاصة بعدما دفع لبنان واللبنانيون أثماناً باهظة أمنياً وسياسياً واقتصادياً من أجل الحقيقة والعدالة والمحكمة الدولية، وليس من أجل المساومة عليها. ورُبّ سائل يقول هنا، بأن هذه الاستحالة للصفقة تصح في لبنان، ولكن ماذا عن سوريا؟ كما قلت في البداية، فإن الظروف التي وضعتني رهينة في وسط هذا التحقيق الدولي منذ ثلاث سنوات، تجعلني في موقع الأكثر اطلاعاً وخبرة في الإجابة على هذا التساؤل، بناء لما حصل بيني وبين لجنة التحقيق الدولية في هذا المجال، ومعظمه موثق بالإثباتات والوقائع لدى اللجنة والقضاء اللبناني. وهنا أؤكد للحقيقة والتاريخ، بأنه حتى قبل بدء التحقيق الدولي في صيف العام ،٢٠٠٥ أي بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري بثلاثة أشهر، كانت هنالك محاولة لعقد صفقة أو تسوية مع سوريا بناء لطلب من لجنة التحقيق الدولية حينذاك برئاسة القاضي ديتليف ميليس ومساعده الألماني رئيس المحققين غيرهارد ليمان. وفي هذا المجال لست أدري حتى الآن لماذا وقع اختيارهما عليّ شخصياً، لأكون وسيطاً في تلك الصفقة بين اللجنة الدولية وسوريا، يوم زارني السيد ليمان سراً، بناء لطلبه، في منزلي في بيروت بتاريخ ٣١ أيار ،٢٠٠٥ أي قبل اعتقالي بثلاثة أشهر، مشيداً بقدراتي وإمكاناتي ومستقبلي، وعارضاً عليّ نقل رسالة شفهية إلى الرئيس بشار الأسد بأن »ينقذ نظامه« مقابل تأليف لجنة تحقيق سورية تتولى تقديم »ضحية سورية دسمة«، من مستوى رستم غزالي وما فوق، على أن تقوم تلك الضحية بالاعتراف بالجريمة بناء لأسباب لا علاقة لها بالنظام السوري، ثم أن يُعثر عليها لاحقاً مقتولة بحادث سيارة أو بانتحار مع رسالة خطية. وأضاف ليمان في عرضه، بأنه بناء على ذلك، يتم عقد تسوية مع سوريا على غرار التسوية التي جرت مع النظام الليبي في قضية تفجير طائرة لوكربي. وختم ليمان عرضه بأنه يخشى في حال رفض سوريا لهذا العرض أن يصاب النظام السوري كله، خاصة وأن سوريا متهمة، وستبقى متهمة ما لم تُثبت هي براءتها... إن ما قلته أعلاه، يحمّلني بالطبع مسؤولية قانونية جسيمة في حال عدم صحته، لا سمح الله، ولكن أطمئن من يشكك به، بأن وقائع وإثباتات وشهود ما جرى أعلاه باتت موجودة لدى لجنة التحقيق الدولية والقضاء اللبناني بما لا يدع مجالاً للشك فيها، بالإضافة إلى تحمّلي كامل المسؤولية عنها. وبالعودة إلى الجلسة السرية الأولى مع غيرهارد ليمان أعلاه، والتي أعقبتها جلسات سرية لاحقة قبل اعتقالي، فإنه كان من البديهي أن أسأله بعد سماعي لعرضه، عما إذا كان يملك أي دليل أو إثبات على تورط سوريا، حتى يمكن البحث في تسوية معها. ولما جاء جوابه حينذاك بنفي حيازته لأي إثبات أو دليل، فقد اعتذرت يومها عن نقل مثل تلك الرسالة إلى الرئيس الأسد، مشيراً إلى أن عرض التسوية على سوريا، من دون دليل على تورطها، سيعني حكماً بأنني أستدرج السوريين إلى فخ وإلى الاعتراف بجريمة لا دليل عليها. وبالطبع لم يقبل ليمان اعتذاري الفوري، وأصر على منحي مهلة للتفكير بالموضوع، لأن نقل تلك الرسالة سيكون من مصلحتي على حد قوله... في اللقاءات السرية اللاحقة في منزلي أيضاً، وبناء لطلب ليمان، أكدت على اعتذاري رغم إلحاحه، فكان جوابه الأخير بأن عرض التسوية على سوريا هو من مصلحتي، وإلا فإن عليّ شخصياً أن أقدم ضحية (سورية) للجنة، وإلا فقد أصبح أنا الضحية!! مضيفاً بأنه وكل فريقه يريدونني بإخلاص إلى جانبهم، في المركب الناجي، وأنه لا يزال ينتظرني مستقبل باهر ومضمون، خاصة وأنني أحظى باحترام داخلي وخارجي بناء لإنجازاتي في بناء وتطوير المديرية العامة للأمن العام. وكان هذا العرض الأخير في منزلي قبل أسبوعين من اعتقالي. أجبت السيد ليمان في حينه أنني بتصرف التحقيق الدولي للمساعدة في كل شيء إلا بتقديم كذبة أو ضحية، فكان جوابه بأنه مسافر إلى جنيف، وأن لديّ مهلة للتفكير أسبوعاً إضافياً لآخر مرة. وانتهى الأسبوع يوم الأحد في ٢١ آب ،٢٠٠٥ فأبلغته هاتفياً ظهر ذلك اليوم أنه ليس عندي كذبة ولا ضحية، فاعتقلت بعدها بتسعة أيام بالضبط، أي يوم الثلاثاء في ٣٠ آب ٢٠٠٥ فجراً، في منزلي نفسه الذي كنت استضفت فيه ليمان سراً بناء لطلبه على مدى الأشهر الثلاثة السابقة. ثم تكرر عرض »الضحية« في اليوم الأول من الاعتقال، عند منتصف الليل بحضور رئيس اللجنة ديتليف ميليس في المونتفردي، ثم تكرر عدة مرات آخرها بتاريخ ١٩/١/،٢٠٠٦ قبل أن تطيح فضيحة محمد زهير الصديق وشهود الزور بلجنة ميليس وفريقه الألماني. ثم علمت لاحقاً، بأن غيرهارد ليمان وعندما يئس من قبولي لعروضه، عاد إلى طرح التسوية مع سوريا عبر أحد السياسيين اللبنانيين المقربين منها، وكان الجواب بالرفض القطعي لأية صفقة أو تسوية. تقودني هذه الوقائع، التي أضعها بتصرف السلطات والمراجع السياسية والرأي العام، إلى القول والاستنتاج بأن التساؤلات والهواجس عن احتمال عقد صفقة أو تسوية مع سوريا هي في غير محلها تماماً، إذ إنه إذا كانت سوريا قد رفضت مثل تلك التسوية في الماضي، وفي عز الاتهامات السياسية والحشرة الدولية وتحقيقات لجنة ميليس و»شهوده«، فعلى أي أساس منطقي يمكن الافتراض اليوم، بأن سوريا قد تقبل بصفقة سياسية على حساب المحكمة الدولية؟ في حين أن التحقيقات الدولية لم تحدد حتى الآن هوية المجرمين الحقيقيين، وفي حين أن التحقيق الدولي، بعد سقوط ميليس وفريقه، قد انفتح على مختلف الاحتمالات ولم يعد مقتصراً فقط على الاحتمال السوري؟؟ وفي حين أيضاً أن مدعي عام التمييز القاضي سعيد ميرزا ومساعده المحقق العدلي صقر صقر، قد استلما مؤخراً من اللجنة الدولية كل محاضر الاستجواب التي خضع لها الضباط السوريون منذ زمن القاضي برامرتز، فهل وجدا فيها ما يبرر احتمال حصول تسوية أو صفقة مع سوريا؟؟ بالطبع كلا... إنه لمن ألطاف القدر بالرئيس الشهيد رفيق الحريري، أن لا يكون هنالك طرف لبناني مستعد أو يجرؤ على القبول بأية صفقة أو تسوية على حساب دمه. كما أنه من ألطاف القدر أيضاً أن سوريا ليست مستعدة، بالأمس كما رأينا، ولا اليوم وغداً، للقبول بمثل تلك التسوية أو الصفقة. وإذاً لم يعد هنالك بالتالي من خوف على المحكمة الدولية من صفقة لبنانية أو سورية على حسابها، فهل هذا يعني بأن المحكمة الدولية لم تعد في خطر؟ وهل يصح أن نطمئن ونقول بأن المحكمة أصبحت بألف خير؟؟ جوابي هو كلا. جوابي هو أن المحكمة الدولية في خطر، والتفاصيل غداً... (غداً جزء ثانٍ)
No comments:
Post a Comment